
في رُبوع هذا الكون، حيث تنطق كل ذرةٍ بشهادة التوحيد، وتسجد كل خليةٍ لفاطرها، ويسبح الكون بحمد ربه: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. وُجد الإنسان خليفةً في الأرض، مكرّمًا، مصطفًى بفطرته، قد خُلق ذكرًا أو أنثى، قضى الله بذلك لحكمةٍ لا نعلمها، واختبار يثاب عليه من صبر واحتسب.
غير أن زمناً قد هبّت فيه رياح الفتن، وتبدّلت فيه المفاهيم، فصار بعض الناس – بجهلٍ أو عناد وهوى – يتقحمون ما لا يحسنونه، ويتسللون إلى محراب الخلق ليدّعوا لأنفسهم سلطة التصوير والتبديل، فكان ما يُسمّى اليوم بـ "الخنوثة المصطنعة" أو "تغيير الجنس"، مسرحًا لهذا العبث الخطير.
بين فطرةٍ مشرقة وشهوةٍ مظلمة
إن الإنسان لا يملك نفسه ملكًا مطلقًا، بل هو مملوكٌ لله، صُنع بيد الخالق، وسُوّي على عينه، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4].
فمن زعم أن هويته غير ما خُلق عليه، فليس الخلل في الجسد، بل في القلب والعقل؛ لأن من رضي عن ربه خلْقَه، استقامت له الحياة، ومن سخط وجحد، عاش في عذاب الرفض والصراع.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال" [رواه البخاري].
فكيف بمن طمس فطرته، وبتر أعضاءه، وأراد أن ينقلب خلقًا آخر؟
إنه تمرد على الفطرة السوية، وسخط على أقدار الله تعالى، إنه سقوطٌ في وادٍ سحيقٍ من التمرد والانحراف.
الخنوثة في ميزان الشرع
لقد ميّز فقهاء الإسلام بين الخنثى الحقيقي – الذي يولد بعضوين أو بلا علامة واضحة – وهذا يُنظر في أمره برحمة الشرع وعلمه، ويوجه برفقٍ إلى ما يغلب عليه من صفات، بلا إثمٍ عليه ولا لوم.
أما من بادر إلى تغيير خلقه السويّ عمدًا، بدعوى أنه "يبحث عن ذاته"، فقد خالف أمر الله، وفتح على نفسه أبواب الفتنة والاضطراب.
قال الله جل جلاله حكاية عن إبليس: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119].
قال السعدي رحمه الله تعالى: (وهذا يتناول تغيير الخلقة الظاهرة بالوشم، والوشر والنمص والتفلج للحسن، ونحو ذلك مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن. وذلك يتضمن التسخط من خلقته والقدح في حكمته، واعتقاد أن ما يصنعون بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن، وعدم الرضا بتقديره وتدبيره، ويتناول أيضا تغيير الخلقة الباطنة، فإن الله تعالى خلق عباده حنفاء مفطورين على قبول الحق وإيثاره، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل، وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان. فإن كل مولود يولد على الفطرة ولكن أبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، ونحو ذلك مما يغيرون به ما فطر الله عليه العباد من توحيده وحبه ومعرفته. فافترستهم الشياطين في هذا الموضع افتراس السبع والذئاب للغنم المنفردة. ولولا لطف الله وكرمه بعباده المخلصين لجرى عليهم ما جرى على هؤلاء المفتونين، وهذا الذي جرى عليهم من توليهم عن ربهم وفاطرهم وتوليهم لعدوهم المريد لهم الشر من كل وجه، فخسروا الدنيا والآخرة، ورجعوا بالخيبة والصفقة الخاسرة، ولهذا قال: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} وأي خسار أبين وأعظم ممن خسر دينه ودنياه وأوبقته معاصيه وخطاياه؟!! فحصل له الشقاء الأبدي، وفاتَه النعيم السرمدي. كما أن من تولى مولاه وآثر رضاه، ربح كل الربح، وأفلح كل الفلاح، وفاز بسعادة الدارين، وأصبح قرير العين).
ومن كمال العدل أن يُرحم المضطر ويُردع المتعدي، فالمريض الذي يعاني اضطراب الهوية النفسية يُحتوى ويُعالج، لا يُزج به إلى مشرط الجراح، ولا يُصفق له في مواكب الشذوذ، بل يُعان على الثبات والصبر، ويُرد إلى هويته الحقيقية. أما من اتخذ هذا طريقًا للشهرة أو اتباعًا للهوى، فلا يُمدح، ولا يُكرّم، بل يُنكر عليه، ويُبين له أنه خائن للأمانة التي أوكلها الله إليه.
صرخة العقل والفطرة
إننا أمام جريمةٍ مزدوجة: جناية على الجسد، وجناية على التشريع. من رضي أن يُعطّل ما فُطر عليه، ويُغضب ربه في جسده، فما أبعده عن نور الطمأنينة!
ويا لَيت قومي يعلمون أن السعادة ليست في تقليد الغرب، ولا في التشبه بمن حاد عن الفطرة، بل السعادة كل السعادة أن تُسلم وجهك لله: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ۗ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [لقمان: 22].
لقد غدا لزامًا علينا، في زمنٍ ضاعت فيه المعايير، أن نكون صوت العقل والفطرة والدين. لا مجاملة مع باطل، ولا تمييع مع شذوذ، بل شفقة صادقة، ودعوة حكيمة، وحدٌّ يُوقف الزحف قبل أن يقتلع الجذور.