الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التوحيد بين الفتن وانتكاس الفطر

التوحيد بين الفتن وانتكاس الفطر

 التوحيد بين الفتن وانتكاس الفطر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله: أوصيكم ونفسي المقصّرة بتقوى الله تعالى، فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال جل شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا (70) يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا (71)) [الأحزاب: 70-71].

أما بعد.

الخطبة الأولى

معاشر المسلمين: لقد صدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إذ قال: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً» رواه أبو داود والترمذي، ونحن في هذا الزمان نرى مصداق هذا الحديث عياناً، فقد اختلطت المفاهيم، وانتكست الفطر، وتبدّلت الموازين، فأصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وصار الحق عند بعض الناس باطلاً، والباطل عندهم حقاً.

أيها الأحبة: الفطرة هي ما ركزّه الله في القلوب من التوحيد والإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه». لكن في هذا الزمان انطمست الفطر عند كثير من الخلق، فمالوا إلى الشهوات، وضلّوا في العقائد، حتى صار بعضهم يظن أن النفع والضر بيد الأموات، أو أن صلاح الدين بغير التوحيد! وهذه الاختلاف أعظم صور انتكاس الفطرة، نعوذ بالله من ذلك.

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم وعظ أصحابه موعظة بليغة، ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقالوا: كأنها موعظة مودّع، فأوصنا. فقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة».

أيها الأحبة: لقد وقع هذا الاختلاف منذ القرون الأولى، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحذرون الأمة منه. فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك"، يريد أن الحق لا يعرف بالكثرة، وإنما يعرف بالدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومع كثرة تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الاختلاف والفرقة، والارشاد إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، إلا أن حال الأمة اليوم يشهد بانتشار الأهواء والبدع، وتفرّق الكلمة، حتى صار التوحيد الصحيح غريبًا بين أهله، وصدق فينا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء» رواه مسلم.

وإن أعظم ما أُهمل في هذا الزمان: أصل التوحيد الذي هو أساس الدين، فصارت مسائل العقيدة تُعدّ عند بعضهم أموراً ثانوية، ويُتهم من يدعو إليها بالتشدد، بل يُنصح أحياناً بترك الحديث فيها! فأي جهل أعظم من هذا؟! وهل يصح بناءٌ بلا أساس؟! وهل تُقبل الأعمال مع فساد المعتقد؟! قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الزمر:65].

فالواجب علينا أن نثبت على الحق، وأن نعضّ على السنة بالنواجذ، وأن نحذر من دعاة الفتنة والبدعة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أيها الإخوة المؤمنون: إن من صور إهمال التوحيد التي نراها اليوم ما يتعلق بالقبور والمشاهد والأضرحة، فقد عاد في بعض بلاد المسلمين ما حذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وتكراراً. صارت القبور تبنى عليها القباب، وتزيَّن بالرخام، وتوضع في المحاريب والمساجد، حتى صارت مزارًا يُقصد، وربما تُعلّق عليها النذور، وتُرجى بركة أصحابها، وهذا كله من ذرائع الشرك الأكبر.

وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في سكرات الموت: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا. وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» رواه مسلم.

فيا عباد الله: كيف يُتساهل في هذا الأمر، وقد لعن النبي من فعله؟! كيف تُرفع القبور وتُزيّن، وتوضع في المساجد، ويُصلّى عندها، وقد نهى النبي عن ذلك؟! وكيف يُرجى النفع من عبدٍ لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا؟! قال الله عن خير خلقه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) [الأعراف:188].

أيها المسلمون: لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أول من سعى في إزالة ذرائع الشرك. فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته"، فهذا هو أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ينفذ وصية النبي صلى الله عليه وسلم، ويبعث رجاله ليهدموا التماثيل ويسووا القبور المشرفة حتى لا تكون بابًا من أبواب الشرك.

بل روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تفسير قوله تعالى: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ): "كان هؤلاء رجالاً صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، فلما هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت من دون الله" رواه البخاري. فانظروا كيف بدأت الوثنية من تعظيم القبور، حتى وصلت إلى عبادة الأصنام! ولهذا كان السلف أشد الناس غيرة على التوحيد، فإذا رأوا قبرًا رفع فوق الحد المشروع سووه بالأرض، وإذا رأوا تمثالًا طمسوه، مخافة أن يكون ذريعة إلى الشرك. وهكذا يجب أن يكون حالنا، حماية لعقيدتنا، وصيانة لفطرتنا، وحفظًا لديننا.

أيها الأحبة في الله: لقد انشغل كثير من الناس بفتن الدنيا وأخبارها، حتى باتوا يسهرون الليالي لأجل شهوات، او سياسات بينما يجهلون أصول دينهم، ويغفلون عن حقيقة توحيدهم، ويعرضون عن الوصية الكبرى التي ختم بها النبي صلى الله عليه وسلم حياته، ألا وهي حماية التوحيد، وسدّ ذرائع الشرك.

فاللهَ اللهَ عباد الله في التمسك بالعقيدة الصحيحة التي فطر الله الناس عليها، وغرسها في قلوب عباده، فجدّدوا الإيمان في نفوسكم، وعلّموه أبناءكم، وادعوا إليه في مجتمعاتكم، فإنها حبل النجاة، وأصل القبول، وأمان الأمة في دنياها وأخراها.

هذا وصلّوا وسلّموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال جلّ وعلا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين. اللهم طهّر بلاد المسلمين من البدع والأضرحة والشركيات، وأحيِ فيها التوحيد والسنة. اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، ووحّد صفوفهم على الكتاب والسنة. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة

لا يوجد مواد ذات صلة