الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هول القبر ووحشته

هول القبر ووحشته

 هول القبر ووحشته
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. الحمد لله فاطر السموات والأرض، الذي جعل الملائكة رسلاً ذوي أجنحة مثنى وثلاث ورباعاً، يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير. نحمده كثيرًا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونسأله أن يوفقنا لما يحب ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وإنه لخير المرسلين وخاتم النبيين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ) [آل عمران: 102]. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا) [النساء: 1]. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا (70) يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا (71)) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد.
الخطبة الأولى:
أيها المسلمون: ليلتان محورهما حياة المسلم، يتصور كل مسلم ليلتين متناقضتين، ليلة وهو في داره مطمئنّ مع أهله وأطفاله، ينعم في عيش رغيد، في صحة وعافية، يفرح مع أبنائه وهم يفرحون به مع زوجته وأقاربه. وتأتي الليلة التالية مباشرة، إذ يقبض الله الروح ويوضع الإنسان في قبره، فما بالنا إذًا إذا انتقلنا فجأة من نعيم الدنيا إلى وحشة القبر؟ يجب أن يدرك كل منا أن حاله قد يتغير من ليلةٍ لأخرى فجأة، من راحةٍ وهناءٍ إلى وحشةٍ وخواء.
يقول الشاعر العربي:
فارقت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون
القبر أول ليلةٍ بالله قل لي ما يكون
يقول الشاعر: "لقد انتقلت من فراشي في داري إلى فراشٍ في دارٍ أخرى فلم يغلبني النوم. فبالله، كيف ستكون أول ليلة في القبر حين يُوضع المرء وحيدًا لا زوجة له ولا أولاد، ولا رفيق إلا عمله؟" قال تعالى: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقُّ، أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام:62]. لقد تركت تلك الليلة الأولى في القبر أثرها في النفوس؛ فقد بكى لها العلماء، وشكاها الحكماء، ورثاها الشعراء، وكتبت عنها الرسائل والمصنفات.
هذه قصة رجل صالح على فراش الموت: أُتي بأحد الصالحين وهو في سكرات الموت بعد أن لدغته أفعى، وكان في سفر بعيد فلم يُتَح له توديع والدَيه وأهله وإخوانه. بدأ يلفظ أبيات رثاءٍ بأطراف أنفاسه، ومنها:
فلله دري يوم أترك طائعاً بني بأعلى الرقمتين وماليا
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
في هذه الأبيات يستنكر كيف سيغادر أولاده وأهله فجأةً دون وداع، وكيف تذهب الحياة كلها في لحظة. ثم يقول لنفسه: يقول لي المرافقون: "لا تبتعد" (أي: لا يبتليك الله بالبعد)، فيجيب بدهشة: "وأي مكانٍ بعيدٍ سوى هذا القبر؟ وأي وحشةٍ أبلغ من هذا المنقلب؟ وأي ظلمٍ في الدنيا أشد من ظلمة هذا القبر؟ كيف يمكن لتصورٍ أن يحيط بذلك؟"
وقال ربنا عز وجل: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا، إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا، وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100]. فماذا ينفعك أن تندم الآن وتراجع حسابك بعد فوات الأوان؟
أيها الغافل الذي تدير وجهك عن المساجد ولا تعرف طريق الصلاة، أيها الذي يعلوه المعصية فيصدك المتاع عن تلاوة القرآن، أيها المنتهك لحدود الله المعتاد على المعاصي والذنوب: هل تذكر الآن أول ليلة في القبر؟ أين كنت قبله؟
تأمل أخي الحبيب حزن زوجة الحسن بن الحسن على زوجها: يحكي التاريخ أن الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهما مات فجأةً وهو شاب، وترك وراءه زوجةً وأولادًا. إن الموت لا يستأذن صغيرًا ولا كبيرًا، ولا غنيًّا ولا فقيرًا، ولا أميرًا ولا وزيرًا. قالوا: إن الموت يقصم الظهر، ويخرج الناس من الدور، وينزلهم من القصور، ويسكنهم القبور بلا استئذان. فانتقلت زوجته إلى قبره وحزنها شديد شديدٌ لا يطيقه بشر. أقامت خيمةً حول قبره مع أطفالها - وهذا ليس من الشرع - وأقسمت بالله أنها ستبكي هي وأولادها على زوجها سنةً كاملة. فقد بكت وأسرةُ أولادها طوال ذلك العام بلا توقف. وعندما انقضت السنة، فكّت الخيمة وأخذت أولادها، ثم سمعت في الظلام صوتًا يقول: "هل وجدوا ما فقدوا؟" فأجاب صوت آخر: "لا، بل قد تيأسوا وعادوا. فلم يجدوا ضالتهم ولا ما تمنوا" وقد تناقل الناس من النساء قولاً في ذلك الموقف:
كنز بحلوان عند الله نطلبه خير الودائع من خير المؤدينا
ثم أكمل أحد الحاضرين قائلاً: "لا، بل تيأسوا وانقلبوا. لم يتكلّم في القبر أحد، ولا ليلةً واحدة، لم يقبِّل أولاده، ولم يرَ فتاته." فكان هذا أول ليلة في القبر. ولكل مؤمنٍ ليالٍ كثيرة في قبره إن أحسن عمله، كما قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّاتُهُمْ بِإِيمَانٍ، أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور:21].
أدعو الله العظيم أن يثبتنا على طاعته، فهو الرؤوف الرحيم بنا، وعليه التكلان. أقول ما تسمعون، وأسأل الله العظيم الجليل أن يغفر لنا جميعًا، ويهدينا سبل الرشاد. فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد أيها الأحبة: كان لأبي العتاهية مواقف مع هارون الرشيد يعظه فيها ومن ذلك: ما روى المؤرخون أن الشاعر أبو العتاهية قابل هارون الرشيد وهو من ملوك بني العباس منبهرًا ببناء قصوره. فقد هنَّأه بهذا القول:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
يجري عليك بما أردت مع الغدو مع البكور
ثم أضَافَ مُنذِرًا إياه بالقصيدة نفسها:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
وقال: "عش في أمانٍ ورخاء ما تشاء في ظل هذه القصور الشاهقة، وامنح نفسك لذات الحياة صباحًا ومساءً. ولكن عندما تنهض نفسك آخِرَ زفرة من صدرك وتئن، عند ذلك فقط ستعلم يقينًا أنك كنت في غفلة ووهم." فبكى السلطان حتى أُغمى عليه.
ولنذكر أنفسنا جميعًا: أول ليلةٍ في القبر، فلنستعد لها بالإيمان والعمل الصالح؛ فقد لا ينير لنا قبرنا في تلك الليلة إلا نور الإيمان. قال رسول الله ﷺ: "{القبر روضةٌ من رياض الجنة أو حفرةٌ من حفر النار}." وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا صُحِبَ بالجنازة بكى حتى يُغمى عليه، فسُئِل عن السبب، فقال: "سمعت النبي ﷺ يقول: {القبر أول منازل الآخرة، فإذا نجا العبد فيه أفلح وسعد، وإذا خسر فيه خسر آخرته كلها}."
والقبر روضةٌ من الجنان أو حفرة من حفر النيرانِ
إن يكن خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعده أشدّ، ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
فما سمعتموه من قصصٍ وعِبَرٍ كان تذكرةً لنا بواقع أول ليلةٍ في القبر وخطورة الأيام على مصير الإنسان. ألا فليتعظ كل مسلم من هذه العبر ولا يضيع وقته في اللهو والنسيان؛ فالدنيا دار عمل ودار لا تبقى. مهما طال بقاء الإنسان على وجه الأرض، فمهلة الآخرة هي الحاكمة والأجل الحقيقي هو الموت. فلنعدَّ لأنفسنا زادًا ليوم اللقاء،

وإن مما ينور القبور على أهلها، ويوسع ضيقها، ويملؤها أنسا وطمأنينة هي الأعمال الصالحة، قال ابن عِلاَّن في شرح رياض الصالحين: إن القبور مملوءة ظلمة لعدم المنافذ التي يدخل منها الضوء إليها فلا ينيرها إلا الأعمال الصالحة أو الشفاعات المقبولة الراجحة. انتهى.
ومن أعظم أسباب نيل هذا النور الحفاظ على الصلاة والصبر، ففي الحديث: "والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء". رواه مسلم.
ومنها الدعاء لأهل القبور ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأبي سلمة حين قبض، وكان من دعائه: .. "وأفسح له في قبره، ونور له فيه".. ، وفي بعض ألفاظ دعاء الجنازة: "اللهم نور له في قبره".

اللهم صل على نبيك وحبيبك، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين. وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين. اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه يا رب العالمين. اللهم اهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وثبتنا على الحق حتى نلقاك. فإن عملنا الصالح وحده ما يُنجي من وحشة القبر وعذاب القبر.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة

لا يوجد مواد ذات صلة