
أراد الله تعالى بفضله وحكمته أن يتخذ من عباده شهداء، صدقوا ما عاهدوه عليه، وآثروا رضاه وما عنده على نفوسهم، وبذلوا أرواحهم وهي أغلى ما يملكون في سبيله، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}(آل عمران:140) قال ابن كثير: "{وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} يعني: يُقْتَلون في سبيله، ويبذلون مُهَجَهُم في مرضاته"، ومن هؤلاء أنس بن النضر وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم الذين استشهدوا في يوم أُحُد، وقبلهم في بدر، وبعدهم في خيبر وغيرها من غزوات وأحداث، وقد قال الله تعالى عنهم وعن أمثالهم، ـ فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ـ: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}(الأحزاب:23). قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كنا نرى أن هذه الآية: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه} نزلت فيه (أنس بن النضر) وفي أشباهه".
وغزوة خيبر ـ التي وقعت أحداثها في السنة السابعة من الهجرة النبوية ـ من الغزوات الحافلة بالمواقف التي ينبغي الوقوف معها للاستفادة من دروسها ومعانيها، ومن هذه المواقف: موقف لأعرابي يدل على قوة إيمانه بالله عز وجل، وإخلاصه له، وصدق اتّباعه للنبي صلى الله عليه وسلم، وصدق تمنيه للشهادة والموت في سبيل الله، وطلب ما عنده سبحانه وحده، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأعرابي بكل ذلك، وصلى عليه، ودعا له.
عن شَدَّاد بن الْهَادِ رضي الله عنه: (أنَّ رجلاً مِن الأعراب (سكان البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة) جاء إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فآمَنَ به واتَّبعه، ثم قال: أُهاجر معك، فأوصى به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلمَّا كانت غزوة خيبر، غنِمَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فيها شيئاً، فقَسمَ وقسمَ له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظَهْرَهُم (الإبل التي يحمل عليها وتركب)، فلمَّا جاءهم دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قَسْمٌ قَسمَه لك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: قَسمتُهُ لَك، قال: ما على هذا اتَّبعتُك، ولكنِّي اتَّبعتُك على أن أُرْمَى هاهُنا ـ وأشار إلى حلقه ـ بسَهْمٍ، فأموتَ فأدخل الجنَّة، فقال: إِنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ، فلبثوا قليلاً ثمَّ نهضوا في قتال العدوِّ، فأُتِىَ به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُحمَل، قد أصابه سَهْمٌ حيث أشار، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أَهوَ هوَ؟ قالوا: نعم، قال: صدق اللَّهَ فصدقه، ثم كَفَّنَه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في جُبَّةٍ، ثمَّ قدَّمَهُ فصلَّى عليه، فَكان فيما ظهَر مِن صلاتِهِ عليهِ: اللَّهمَّ إنَّ هذا عبدُك، خرج مُهاجراً في سبيلك، فقُتلَ شهيداً، أَنا شَهيدٌ على ذلك) رواه الحاكم والنسائي وصححه الألباني.
وفي شرح سنن النسائي لهذا الحديث والموقف النبوي وذِكْرِ بعض فوائده: ".. (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فآمن به، واتبعه) لأن الإيمان يستلزم الاتباع، (ثم قال: أهاجر معك) أي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أترك بلدي، وأكون معك في المدينة، وإنما طلب ذلك منه رغبة فيما أعد للمهاجرين من الثواب، وليتمكن من الخروج للجهاد ونحوه بسهولة، (فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه) أي أذن له صلى الله عليه وسلم في أن يهاجر، وأن يكون معه، ثم أوصى، أي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة، ليقوم بأمره، حيث إنه غريب.. (وقسم له) أي لذلك الأعرابي (فأعطى أصحابه ما قسم له) أي أعطى النبي صلى الله عليه وسلم حظ ذلك الأعرابي من الغنيمة لأصحابه..(وكان) ذلك الرجل (يرعى ظهرهم) أي يحرس ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لئلا يأتيهم العدو من جهته بغتة، (فلما جاء) من محل حراسته (دفعوه إليه) أي أعطوه حظه الذي أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليحفظوه له (فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم) أي نصيب، (قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه) أي ذلك القسم (فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك) أي لم أتبعك لأجل أن أصيب عرضا دنيويا (ولكني اتبعتك، على أن أرمى) بالبناء للمفعول (إلى هاهنا، وأشار إلى حلقه بسهم) (فأموت، فأدخل الجنة) أي إنما اتبعتك لأجل أن أدخل الجنة بالاستشهاد في سبيل الله تعالى، (فقال) صلى الله عليه وسلم: (إن تصدقِ اللهَ يصدقك).. والمعنى: إن كنت صادقاً ومخلصاً فيما تقول، وتعاهد الله تعالى عليه، يجازيك على صدقك بإعطاء ما رغبت فيه، (فلبثوا قليلا، ثم نهضوا في قتال العدو) أي قاموا مسرعين.. (فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يُحْمَل).. (قد أصابه سهم، حيث أشار) أي في المحل الذي أشار إليه حينما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ولكني اتبعتك على أن أرمى)، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟) أي أهذا المحمول هو ذلك الرجل الذي قال مقالته التي سبقت؟ (قالوا: نعم، قال: صدق الله) أي أخلص لله في قوله وعهده، (فصدقه) أي جازاه بتحقيق رغبته، (ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم، في جبة النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن تكفينه في جبته صلى الله عليه وسلم لبركتها، وإلا فالسنة أن يكفن الشهيد في ثيابه، .. (ثم قدمه) أي وضعه بين يديه، (فصلى عليه) هذا محل الترجمة، حيث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى على شهيد، (فكان فيما ظهر من صلاته) أي تبين لمن صلى معه من الدعاء لذلك الميت، (اللهم هذا عبدك، خرج مهاجرا في سبيلك، فقتل شهيدا، أنا شهيد على ذلك) أي على المذكور من هجرته في سبيل الله، ثم قتله شهيدا..
فوائده: منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو مشروعية الصلاة على الشهداء.. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل كل أحد على حسب حاله.. ومنها: شدة عنايته صلى الله عليه وسلم بأصحابه، ولا سيما الغرباء، فقد أمر بعض أصحابه أن يقوم بشان هذا الأعرابي، لئلا يناله مشقة الغربة، فيحمله على أن يبغض الإسلام.. ومنها: كون الغنيمة حلالا. ومنها: أن الغنيمة تقسم بين من حضر الوقعة.. ومنها: مشروعية حراسة ظهور الجيش، لئلا يفاجئهم العدو من جهتها. ومنها: استحباب الإعراض عن الغنيمة، وإن كانت حلالا، لئلا ينقص من أجر الغزو شيء.. ومنها: فضل صدق العبد ربه في معاملته، ليجازيه على صدقه، فإن هذا الرجل لما صدق في كونه غزا ليفوز بالجنة، لا لعرض الدنيا، حقق الله تعالى رغبته في ذلك، فاستشهد، ودخل الجنة. ومنها: عدم مشروعية غسل الشهيد، حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - لم يغسل هذا الشهيد. ومنها: مشروعية تكفين الشهيد. ومنها: مشروعية الدعاء للميت في الصلاة عليه.. والله تعالى أعلم بالصواب".
من دروس السيرة النبوية الهامة: فضْل الصدق مع الله، وعِظَم منزلة الشهيد، وهذا ما ظهر في موقف هذا الأعرابي رضي الله عنه في غزوة خيبر، ومن ثم فعلى المسلم أن يدعو الله تعالى أن يرزقه الصدق، ويسأله سبحانه الموت والشهادة في سبيله، فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ سألَ اللَّهَ تَعالى الشَّهادَة بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ تعالى منازِل الشُهداء وإنْ مات على فراشه) رواه مسلم.
قال المناوي: "قيَّد السؤال بالصدق، لأنه معيار الأعمال، ومفتاح بركاتها وبه ترجى ثمراتها، (بلَّغه الله منازل الشهداء) مجازاة له على صدق الطلب". وقال ابن القيم في كتابه"الفوائد": فصل: لَيْسَ للْعَبد شَيْء أَنْفَع من صدقه ربه فِي جَمِيع أُمُوره.. وَمن صدق الله فِي جَمِيع أُمُوره صنع الله لَهُ فَوق مَا يصنع لغيره". وقال ابن عثيمين: "فإذا سأل الإنسانُ ربَّه وقال: اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك ـ ولا تكون الشهادة إلا بالقتال لتكون كلمة الله هي العليا ـ، فإن الله تعالى إذا علم منه صدق القول والنية، أنزله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه".