
في حديث عقبة بن عامر قال: لما أنزل {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] قال صلى الله عليه وسلم "اجعلوها في ركوعكم"، فلما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] قال "اجعلوها في سجودكم". أخرجه أبو داود وابن حِبّان في صحيحه.
ومعنى "سبحانك": نزهتك تنزيهاً، والتسبيح معناه التنزيه من النقائص والعيوب، وجاء التسبيح مقرونا باسم من أسماء الله الدالة على العظمة والجلال، فيقول المصلي في الركوع "سبحان ربي العظيم"، وفي السجود مقرون باسم دال على العلو المطلق لله تعالى، إذا إن التنزيه المتضمن لنفي العيوب والنقائص عن الله لا يكون مدحا إلا إذا قرن بإثبات الكمال لله تعالى، فالمصلي في ركوعه وسجوده ينفي عن الله كل نقص بقوله: "سبحان الله" وفي ذات الوقت يثبت له العظمة والجلال والعلو بقوله: "العظيم"، "الأعلى"، وبقوله: "وبحمده"، فيجمع بين نفي النقص وإثبات الكمال، وهذه هي طريقة القرآن، كما في سورة الصافات: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182].
وزيادة "وبحمده" بين الحافظ ابن حجر ثبوتها في عدة روايات، وأصلها في الصحيحين عن عائشة بلفظ: "كان يكثر أن يقول في ركوعه سبحانك اللهم ربنا وبحمدك".
ومن الأدعية المأثورة في الركوع ما رواه مسلم في صحيحه عن علي ابن أبي طالب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع قال: " اللهم، لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصرى، ومخي وعظمى وعصبي ".
فقوله: " اللهم لك ركعت ولك أسلمت" يشير إلى معنى الإخلاص، أي: لك، لا لغيرك، ففي تقديم المعمول إفادة الحصر والاختصاص، ومثله قوله: "وبك آمنت"، أي بك لا بغيرك صدقت، وأما قوله: "خشع لك سمعي وبصري": فالمراد به: قبول سماع الحق، والإعراض عن سماع الباطل.
وقوله: "ومخي" قال ابن رسلان في شرحه سنن أبي داود: المراد به هنا الدماغ وأصله الودك الذي في العظم، وخالص كل شيء مخه، "وعظمي وعصبي" أي: فلا يقومان ولا يتحركان إلا بك وفي طاعتك.
وأما قوله في السجود: "سجد وجهي" أي خضع، وذل، وانقَاد، "للذي خلقه" أي: أوجده من العدم، وأسبغ عليه النعم "وصوَّره" أي رتبه على هيئة خاصة، كما شاءها، "وشقَّ سمعه وبصره" من الشَّق بفتح الشين أي فلق وفتح، وإنما قال: شق لوجود الشق فيهما. "أحسنُ الخالقين" بالرفع فاعلُ "تبارك"، أي المصورين والمقدرين، وهو الخالق الحقيقي المنفرد بالإيجاد والإمداد، وغيره إنما يوجد صوراً مُمَوَّهَةً، ليس فيها شيء من حقيقة الخلق، فهو خالق كل صانع وصنعته، فالخلق من الله بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم، ومن الخلق بمعنى التقدير والتصوير، وبينهما بَوْنٌ عظيم.
وأما الحكمة من ذكر هذه الأعضاء والحواس وتعدادها؛ فلأن كل واحدة منها شاهدة على قدرة الله فإن السمع والبصر كل منهما فيه من الحاسة وعجائب الصنعة ما يدل من نظر إليها على قدرة صانعها، وكونها لا تستمسك إلا بإمداد إمساكه سبحانه وتعالى.
قال العيني في نخب الأفكار: "فإن قيل: كيف يتصور الخشوع من هذه الأشياء؟ قلت: ذَكَرَ الخشوع وأراد به الانقياد والطاعة، فيكون هذا من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم.
فإن قيل: ما وجه تخصيص السمع والبصر من بين الحواس، وتخصيص المخ والعظم والعصب من بين سائر أجزاء البدن؟
قلت: أما تخصيص السمع والبصر فلأنهما أعظم الحواس، وأكثرها فعلًا، وأقواها عملًا، وأمسها حاجة؛ ولأن أكثر الآفات للمصلي بهما؛ فإذا خشعتا قلَّت الوساوس الشيطانية.
وأما تخصيص المخ والعظم والعصب؛ فلأن ما في أقصى قعر البدن المخ، ثم العظم ثم العصب؛ لأن المخ يمسكه العظم، والعظم يمسكه العصب، وسائر أجزاء البدن مركبة عليها، فهذه عمدُ بِنْية الحيوان وأطنابها، وأيضًا العصب خزانة الأرواح النفسانية، واللحم والشحم غادٍ ورائح، فإذا حصل الانقياد والطاعة عن هذه فالذي يتركب عليها بالطريق الأولى، فهذه الأسئلة والأجوبة لاحت لي في هذا الموضع من الفيض الإلهي والسر الرحماني، فلله المنة والحمد".
ومن أدعية الركوع والسجود ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -كان يقولُ في سُجوده ورُكوعه: "سُبُّوحٌ قُدُّوس ربُّ الملائكة والرُّوح".
قال الخطابي: لم يأت من الأسماء على " فعول " بضم الفاء إلا قُدوس وسُبوح، والقدوس: الطاهر من العيوب. ومعنى سبوح قدوس أنه يُسَبَّح ويُقَدَّس، وقيل: القدوس المبارك. والروح مختلف فيه، والأظهر أنه جبريل عليه السلام. كما قال ابن الجوزي في كشف المشكل.
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: ومعنى السبوح المبرأ من النقائص والشريك وكل ما لا يليق بالإلهية، والقدوس المطهر من كل ما لا يليق بالخالق، وقوله "رب الملائكة والروح" قيل: الروح ملك عظيم، وقيل: يحتمل أن يكون جبريل عليه السلام، وقيل: خلق لا تراهم الملائكة كما لا نرى نحن الملائكة والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومن أدعية الركوع ما ورد في سنن النسائي وغيره من حديث عوف بن مالك أنه سمع النبي - عليه السلام - يقول في ركوعه: «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة».
" الجبروت": مبالغة من الجَبْر، بمعنى القهر والغلبة، "والملكوت": من الملك أي: الملك ظاهرا وباطنا، والمعنى: صاحب القهر والتصرف البالغ كل منهما غايته "والكبرياء" كمال الذات "والعظمة" كمال الصفات، ولا يوصف بها إلا الله تعالى.