ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون
قوله تعالى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم الآية، قال معنى من: التقرير والتوبيخ، ولفظها لفظ الاستفهام. الزجاج:
والمعنى: ما يرغب عن ملة إبراهيم، إلا من سفه نفسه قال يعني: سفه في نفسه، فحذف حرف الجر كما يحذف في سائر المواضع، كقوله تعالى: الأخفش: أن تسترضعوا أولادكم والمعنى: لأولادكم، ومثله: [ ص: 214 ] ولا تعزموا عقدة النكاح أي: عليها.
وقال الزجاج: سفه نفسه : جهل نفسه، فوضع سفه موضع جهل. معنى
وبهذا قال ابن كيسان، فقال: لأن من عبد حجرا أو قمرا أو شمسا أو صنما فقد جهل نفسه ؛ لأنه لم يعلم خالقها، ولم يعلم ما يحق لله عليه.
والعرب تضع "سفه" في موضع جهل، ومنه الحديث: . "الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس"
أي: تجهل الحق.
ويؤيد هذا القول ما روي في الحديث: "من عرف نفسه عرف ربه" .
فقيل في معناه: إنما يقع الناس في البدع والضلالات لجهلهم أنفسهم، وظنهم أنهم يملكون الضر والنفع دون الله عز وجل.
وحكي عن أبي بكر الوراق، أنه قال في معنى هذا الحديث: من عرف نفسه مخلوقة مرزوقة بلا حول ولا قوة، عرف ربه خالقا رازقا بالحول والقوة.
[ ص: 215 ] وقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: كيف عرفتني؟ وكيف عرفت نفسك؟ فقال: عرفتك بالقدرة والقوة والبقاء، وعرفت نفسي بالضعف والعجز والفناء.
فقال: الآن عرفت.
فإذا كان من عرف نفسه عرف ربه كان من جهل نفسه جهل ربه، حتى يرغب عن ملة إبراهيم.
قال رغبت عن ملة قتادة: إبراهيم اليهود والنصارى، واتخذوا اليهودية والنصرانية دينا بدعة ليست لله، وتركوا ملة إبراهيم.
وقوله: ولقد اصطفيناه في الدنيا أي: اخترناه للرسالة، وتأويله: أخذناه صافيا من غير شائب، وإنه في الآخرة لمن الصالحين قال يريد عطاء: نوحا وآدم.
وقال أي: من الذين يستوجبون على الله الكرامة وحسن الثواب. الحسن:
وقال يريد: من الفائزين ؛ لأن الصالح في الآخرة فائز. الزجاج:
وقوله: إذ قال له ربه أسلم : إذ يتعلق بالاصطفاء، على معنى: اصطفاه إذ قال له ربه: أسلم.
أي: في ذلك الوقت.
قال عن الكلبي، رفع ابن عباس: إبراهيم الصخرة عن باب السرب، ثم خرج منه، فنظر إلى الكوكب والشمس والقمر كما ذكر الله عنه في قوله: فلما جن عليه الليل الآيات، فقال له ربه: أسلم.
أي: أخلص دينك لله بالتوحيد.
وقال أسلم نفسك إلى الله، وفوض أمرك إليه. عطاء:
قال أخلصت بـ "لا إله إلا الله". الكلبي:
[ ص: 216 ] وقال في رواية ابن عباس، يريد: بقلبه ولسانه وجوارحه، فلم يعدل بالله شيئا، ورضي أن يحرق بالنار في رضا الله عز وجل، ولم يستعن بأحد من الملائكة. عطاء:
قوله تعالى: ووصى بها إبراهيم بنيه يقال: وصى يوصي توصية ووصاه.
وقرئ وأوصى، ولهما أمثلة من الكتاب، فمثال التشديد قوله: فلا يستطيعون توصية ، وقوله: ووصينا الإنسان بوالديه ، ومثال الإفعال قوله: يوصيكم الله في أولادكم ، وقوله: من بعد وصية توصون بها أو دين .
قال وصى: أبلغ من أوصى ؛ لأن أوصى: جائز أن يكون قال لهم مرة واحدة، ووصى: لا يكون إلا لمرات كثيرة. الزجاج:
وقوله: بها قال الكلبي، بكلمة الإخلاص "لا إله إلا الله"، وذلك أن ومقاتل: إبراهيم، ومن بعده يعقوب وصيا أولادهما بلزوم التوحيد، وقالا لهم: يا بني إن الله اصطفى لكم الدين قال يريد: دين الإسلام دين الحنيفية، قال ابن عباس: إبراهيم لبنيه: وحرقتم بالنار. لا تعدلوا بالله شيئا، وإن نشرتم بالمناشير، وقرضتم بالمقاريض،
وقوله: فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون وقع النهي في ظاهر الكلام على الموت، وإنما نهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام، لئلا يصادفهم الموت عليه.
والمعنى: الزموا الإسلام حتى إذا أدرككم الموت صادفكم عليه، وهذا كما تقول: لا أريتك ها هنا.
توقع حرف النهي على الرؤية، وأنت لم تنه نفسك على الحقيقة، بل نهيت المخاطب، كأنك قلت: لا تقربن هذا الموضع، فمتى جئته لم أرك فيه.
وهذا من سعة الكلام.