الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين  إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين  ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم الآية، قال الزجاج: معنى من: التقرير والتوبيخ، ولفظها لفظ الاستفهام.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: ما يرغب عن ملة إبراهيم، إلا من سفه نفسه قال الأخفش: يعني: سفه في نفسه، فحذف حرف الجر كما يحذف في سائر المواضع، كقوله تعالى: أن تسترضعوا أولادكم والمعنى: لأولادكم، ومثله: [ ص: 214 ] ولا تعزموا عقدة النكاح أي: عليها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج: معنى سفه نفسه   : جهل نفسه، فوضع سفه موضع جهل.

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا قال ابن كيسان، فقال: لأن من عبد حجرا أو قمرا أو شمسا أو صنما فقد جهل نفسه ؛ لأنه لم يعلم خالقها، ولم يعلم ما يحق لله عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      والعرب تضع "سفه" في موضع جهل، ومنه الحديث: "الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس" .

                                                                                                                                                                                                                                      أي: تجهل الحق.

                                                                                                                                                                                                                                      ويؤيد هذا القول ما روي في الحديث: "من عرف نفسه عرف ربه" .

                                                                                                                                                                                                                                      فقيل في معناه: إنما يقع الناس في البدع والضلالات لجهلهم أنفسهم، وظنهم أنهم يملكون الضر والنفع دون الله عز وجل.

                                                                                                                                                                                                                                      وحكي عن أبي بكر الوراق، أنه قال في معنى هذا الحديث: من عرف نفسه مخلوقة مرزوقة بلا حول ولا قوة، عرف ربه خالقا رازقا بالحول والقوة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 215 ] وقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: كيف عرفتني؟ وكيف عرفت نفسك؟ فقال: عرفتك بالقدرة والقوة والبقاء، وعرفت نفسي بالضعف والعجز والفناء.

                                                                                                                                                                                                                                      فقال: الآن عرفت.

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا كان من عرف نفسه عرف ربه كان من جهل نفسه جهل ربه، حتى يرغب عن ملة إبراهيم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال قتادة: رغبت عن ملة إبراهيم اليهود والنصارى، واتخذوا اليهودية والنصرانية دينا بدعة ليست لله، وتركوا ملة إبراهيم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ولقد اصطفيناه في الدنيا أي: اخترناه للرسالة، وتأويله: أخذناه صافيا من غير شائب، وإنه في الآخرة لمن الصالحين قال عطاء: يريد نوحا وآدم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحسن: أي: من الذين يستوجبون على الله الكرامة وحسن الثواب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج: يريد: من الفائزين ؛ لأن الصالح في الآخرة فائز.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: إذ قال له ربه أسلم : إذ يتعلق بالاصطفاء، على معنى: اصطفاه إذ قال له ربه: أسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      أي: في ذلك الوقت.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الكلبي، عن ابن عباس: رفع إبراهيم الصخرة عن باب السرب، ثم خرج منه، فنظر إلى الكوكب والشمس والقمر كما ذكر الله عنه في قوله: فلما جن عليه الليل الآيات، فقال له ربه: أسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      أي: أخلص دينك لله بالتوحيد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عطاء: أسلم نفسك إلى الله، وفوض أمرك إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الكلبي: أخلصت بـ "لا إله إلا الله".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 216 ] وقال ابن عباس، في رواية عطاء: يريد: بقلبه ولسانه وجوارحه، فلم يعدل بالله شيئا، ورضي أن يحرق بالنار في رضا الله عز وجل، ولم يستعن بأحد من الملائكة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ووصى بها إبراهيم بنيه يقال: وصى يوصي توصية ووصاه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ وأوصى، ولهما أمثلة من الكتاب، فمثال التشديد قوله: فلا يستطيعون توصية ، وقوله: ووصينا الإنسان بوالديه ، ومثال الإفعال قوله: يوصيكم الله في أولادكم ، وقوله: من بعد وصية توصون بها أو دين .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج: وصى: أبلغ من أوصى ؛ لأن أوصى: جائز أن يكون قال لهم مرة واحدة، ووصى: لا يكون إلا لمرات كثيرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: بها قال الكلبي، ومقاتل: بكلمة الإخلاص "لا إله إلا الله"، وذلك أن إبراهيم، ومن بعده يعقوب وصيا أولادهما بلزوم التوحيد، وقالا لهم: يا بني إن الله اصطفى لكم الدين قال ابن عباس: يريد: دين الإسلام دين الحنيفية، قال إبراهيم لبنيه: لا تعدلوا بالله شيئا، وإن نشرتم بالمناشير، وقرضتم بالمقاريض،  وحرقتم بالنار.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون وقع النهي في ظاهر الكلام على الموت، وإنما نهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام، لئلا يصادفهم الموت عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: الزموا الإسلام حتى إذا أدرككم الموت صادفكم عليه، وهذا كما تقول: لا أريتك ها هنا.

                                                                                                                                                                                                                                      توقع حرف النهي على الرؤية، وأنت لم تنه نفسك على الحقيقة، بل نهيت المخاطب، كأنك قلت: لا تقربن هذا الموضع، فمتى جئته لم أرك فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا من سعة الكلام.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية