الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين  قولوا آمنا [ ص: 218 ] بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون  فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم  صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وقالوا كونوا هودا أو نصارى قال ابن عباس: نزلت في يهود المدينة ونصارى نجران، قال كل واحد من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا تهتدوا فلا دين إلا ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      فقال الله تعالى: قل بل ملة إبراهيم أي: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن دريد: "الحنيف": العادل عن دين إلى دين، وسمي الإسلام: الحنيفية ؛  لأنها مالت عن اليهودية والنصرانية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأصمعي: ومن عدل عن دين اليهود والنصارى فهو حنيف عند العرب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأخفش: الحنيف: المسلم، وكان في الجاهلية يقال لمن اختتن وحج البيت: حنيف.

                                                                                                                                                                                                                                      لأن العرب لم تتمسك في الجاهلية بشيء من دين إبراهيم غير الختان وحج البيت، فلما جاء الإسلام عادت الحنيفية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عباس: الحنيف: المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد: الحنيفية: اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما للناس.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: قولوا آمنا بالله الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا عمر بن أبي عمرو المزكي، أخبرنا محمد بن مكي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن [ ص: 219 ] إسماعيل الجعفي، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عثمان بن عمر، أخبرني علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم"  ، و قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو عثمان سعيد بن العباس القرشي - فيما كتب إلي - أن العباس بن الفضل بن زكريا، أخبرهم عن أحمد بن نجدة، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: علموا أولادكم وأهاليكم وخدمكم أسماء الأنبياء الذين ذكرهم الله في كتابه، حتى يؤمنوا بهم،  ويصدقوا بما جاءوا به، فإن الله تعالى يقول: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المزكي، أخبرنا أبو سعيد إسماعيل بن أحمد الجرجاني، أخبرنا [ ص: 220 ] عبد الله بن زيدان البجلي، حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا عثمان بن حكيم، أخبرني سعيد بن يسار، أن ابن عباس أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين - ركعتي الفجر -  في الأولى منهما: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم الآية كلها، وفي الآخرة واشهد بأنا مسلمون .

                                                                                                                                                                                                                                      رواه مسلم عن قتيبة عن مروان بن معاوية قوله: والأسباط قال الزجاج: الأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل، فولد كل واحد من ولد يعقوب: سبط، وولد كل واحد من ولد إسماعيل: قبيلة.

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما سموا هؤلاء بالأسباط وهؤلاء بالقبائل، ليفصل بين ولد إسماعيل وولد إسحاق.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الأعرابي: السبط في كلام العرب:  خاصة الأولاد، وكان في الأسباط أنبياء، لذلك قال: وما أنزل إليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وما أوتي موسى وعيسى أي: من الآيات والكتاب، وما أوتي النبيون من ربهم من المعجزات والكتب، لا نفرق بين أحد منهم أي: لا نكفر ببعض ونؤمن ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، ونحن له مسلمون أي: مخلصون ديننا عن الشرك بالله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 221 ] قال الحسن: علموا أولادكم وأهاليكم وخدمكم أسماء الأنبياء الذين ذكرهم الله في كتابه حتى يؤمنوا بهم ويصدقوهم بما جاءوا به.

                                                                                                                                                                                                                                      وقالت العلماء: لا يكون الرجل مؤمنا حتى يؤمن بسائر الأنبياء السابقين وجميع الكتب التي أنزلها الله تعالى على الرسل،  فيجب على الإنسان أن يعلم صبيانه ونساءه أسماء الأنبياء، ويأمرهم بالإيمان بجميعهم، إذ لا يبعد أن يظنوا أنهم كلفوا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقط، فيلقنوا قوله تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به قال ابن الأنباري: المعنى: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به أي: فإن آمنوا مثل إيمانكم، فزيدت الباء للتوكيد كما زيدت في قوله تعالى: وهزي إليك بجذع النخلة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو معاذ النحوي: أراد: فإن آمنوا هم بكتابكم كما آمنتم أنتم بكتابهم، فالمثل ها هنا المراد به الكتاب، وقيل: المثل: صلة، والمعنى: فإن آمنوا آمنتم به.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد يذكر المثل ويراد به الشبه والنظير كقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      يا عاذلي دعني من عذلكا مثلي لا يقبل من مثلكا

                                                                                                                                                                                                                                      أي: أنا لا أقبل منك.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان ابن عباس يقرأ فإن آمنوا بما آمنتم به، وهذا يدل على أن مثل في قراءتنا صلة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: فقد اهتدوا أي: قد صاروا مسلمين، وإن تولوا أي: أعرضوا عن الإيمان بكتابكم ونبيكم، فإنما هم في شقاق في خلاف وعداوة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 222 ] و "الشقاق" و "المشاقة": المخالفة، ومنه قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول )، (ومن يشاق الله ).

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فسيكفيكهم الله وعد من الله لرسوله بكفايته أمر من عاداه من مخالفيه، قال المفسرون: ثم كفاه الله أمر اليهود بالقتل والسبي في قريظة، والجلاء والنفي في بني النضير، والجزية والذلة في نصارى نجران.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: صبغة الله "الصبغ": ما يلون به الثياب، والصبغ: المصدر، قال الحسن، وقتادة، وأبو العالية، ومجاهد، والسدي، وابن زيد، وعطية: دين الله، وإنما سمي الدين صبغة لأن المتدين يلزمه ولا يفارقه كما يلزم الصبغ الثوب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عباس، في رواية الكلبي: صبغة الله يعني: دين الله، ومن أحسن من الله صبغة يقول: دينا؟ وذلك أن النصارى كان إذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام صبغوه في ماء لهم ليطهروه بذلك، ويقولون: هذا طهور.

                                                                                                                                                                                                                                      مكان الختان، وذلك حين جعلوه نصرانيا، وهم صنف من النصارى، فجعل الله الختان للمسلمين تنظيفا وتطهيرا،  وأمر به معارضة للنصارى.

                                                                                                                                                                                                                                      وسمي الختان صبغة من حيث كان بدل ما فعلوه من صبغهم أولادهم، كما قال: وجزاء سيئة سيئة فسمى الثانية سيئة لما كانت في معارضة الأولى.

                                                                                                                                                                                                                                      وصبغة الله نصب على الإغراء، على معنى: الزموا واتبعوا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية