حينَ انبثقَ الوحيُّ لأولِ مرةٍ على قلبِ النَّبي ﷺ، كانَ التَّاريخ يقفُ على عتبةِ ولادةٍ جديدة، وكانَ العالمُ يغرقُ في ظلماتٍ لا يُدْركُ عمقها إلا من تلمَّسَ النُّور وهو يندفعُ كالسَّيلِ ليشقَّ صخور الجاهلية وأوهامها، لقد كانَ التَّنزيل المكيُّ زلزالًا يضربُ الأعماق، وثورةً تتغلغلُ في الوجدان، وإزاحةً كونيةً تقتلعُ كل وهمٍ مستقِر، لقد أقبلت مكَّة على قرآنٍ يتحدَّاها، يعري خواءها، يزلزلُ يقينها الموروث، ويهدمُ معابد أفكارها العتيقة، ويصوغُ قلوبًا جديدة لا تلتفتُ إلى إرثِ الأجداد، بل تنظرُ إلى الأفقِ المفتوحِ على العرشِ، وقد تجلَّى ذلكَ في تحدي القرآن للجاهليةِ: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (الفرقان:52)، حيثُ اعتُبرَ القرآن نفسه سلاحًا في مواجهةِ العقائدِ الباطلة.
وإنَّ المتتبعَ للقرآنِ المكيِّ لا يخفى عليه أنَّ السُّور التي نزلت كانت تحملُ بصمة مغايرة للنُّزولِ المدنيِّ، وأقصد بالاختلاف، طريقة السَّرد، والأسلوب، وطبيعة الخطاب، والموضوعات التي عالجها، مثل قضيةِ بناء العقيدة بكلِّ جزئياتها وتفاصيلها وما يتَّصلُ بها في واقعِ الحياة، وقد نجد سورةً كاملة تناقشُ جزئية من جزئياتِ العقيدة في توحيدِ الله في صفاته وأفعاله، أو في الحديث عن قضيةٍ من قضايا اليوم الآخر، "فالقرآن لم يشأ بناء العقيدة الجديدة قبل أن ينتزعَ منهم عقيدتهم الجاهلية، لأنه لا تجتمعُ عقيدة التَّوحيد مع غيرها من العقائد، ولأنَّ لكلِّ معتقد من المعتقدات أثر في سلوكِ الإنسان في حياته، ولهذا نجد تركيزًا على نزعِ العقيدة الجاهلية لتحل محلها العقيدة الجديدة عقيدة التَّوحيد"، ولا يعني هذا أنَّ النُّزولَ المدني خلا من التَّوجيهِ العقدي، الإيمانيِّ، وإنما الأمر خارجٌ مخرجَ الغالب.
أقول: لمَّا كانَ للقرآنِ المكيِّ خصوصيته القارَّة في تضاعيفِه، توجَّه الاهتمامُ إلى المتلقي الذي خُصَّ – ابتداءً - بالخطابِ القرآنيِّ في تلكَ الحقبة، ومما لا يخفى على الباحث المتتبعِ لمسيرِ الجيلِ الأول: أنهم كانوا على صفاءٍ إيمانيٍّ عظيمٍ، وفي سبيلِ دعوة الإله تحمَّلوا كلّ المشاق، وصبروا على الأذى، وامتثلوا لأمرِ النَّبي ﷺ، وأناخوا ركابهم بينَ يديه، وأذعنوا للوحي، واستسلموا له استسلامًا أضحى مثالًا في حُسْنِ الاستجابة، وانصهرت نفوسهم في نورِ الوحي حتى صاروا الصُّورة الأكمل في تلقيهِ والعمل به، ولم تمضِ بضعُ سنواتٍ حتى نَزَلَ عليهم قول الحق: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الحديد:16-17). يكشفُ ابن مسعود رضي الله عنه عن مفارقةِ نزولِ الآية وهم من هم، فيقول: "ما كانَ بين إسلامنا وبين أن عاتَبَنا الله بهذه الآية: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله إلا أربع سنين} (الحديد:16) رواه مسلم. وفي روايةٍ أخرى، يبينُ اندهاش القوم من نزولها، فيصف تلقيهم بقوله: "أقبل بعضنا على بعض: أي شيء أحدثنا؟! أي شيء صنعنا؟!".
وهذا يقودنا إلى تساؤلٍ يفرضُ نفسه: كيف تلقَّى هذا الجيل عتاب القرآن؟ وهل يمكن أن نجد في ذلكَ دلالةً لنا اليوم؟
وإذا كانَ القوم تملكهم العجب من وقْعِ هذه الآية، فهو اندهاشٌ ممتدٌّ إلينا وقْعُهُ، إذ مازلنا حتى اللحظة، نسألُ أنفسنا: كيفَ نزلت هذه الآية في جيلٍ فريدٍ تربَّى في مدرسةِ النُّبوة، وكانوا طليعة من حَمَلَ الدَّعوة، وهم الثُّلة المختارة الذينَ اصطفاهمُ الإله لتحمُّلِ أعباء الرِّسالة إلى العالمين، والإيمان في نفوسهم لم يخْلَقْ، والدُّنيا بعدُ لم تُفْتَح عليهم، ولمَّا ينتهي البلاءُ الذي نَزَلَ بهم، وأمضَّهم، فكيفَ يخاطبهم بقوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}؟
أفكانَ النُّور بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الإشعال؟ أفكان الجيل الذي حملَ أعظم رسالة عرفتها الأرض يحتاج إلى تنبيهٍ من الغفلة؟ وكيفَ يمكن لمن رأى النَّبي ﷺ عيانًا، وسمعَ القرآن غضًّا طريًّا، أن يُعاتَبَ في قلبِ إيمانه؟
يبدو أنَّ الخطابَ جاءَ ليكونَ نفخة في جمرٍ حيٍّ، حتى لا يخبو، فيبقى متقدًا ليشعل في الأرض حياةً لا تنطفئ، ورسالة إلى قلوب حيَّةٍ بلغت أعلى مراتب الصَّفاء، لتبقى يقظةً لا تسكن، متحفزةً لا تفتر، تستزيد من النُّور، دونَ انقطاعٍ عنه، وقد فطِنَ العلامة ابن عاشور لذلكَ، فوصفَ الآية بأنها: "تحريض للمؤمنينَ على مراقبةِ ذلكَ والحذر من التَّقصير".
وما خاطَبَهم الإله بذلكَ إلا ليكملَ صِياغَة الإنسان المكيِّ، المتلقي الذي يُعَوَّلُ عليه فَهم النَّص، والتَّفاعل معه، وإدراك مراميه، وفتح عينه على مآلات أمورٍ يُخشى منها، إنها آيةٌ تُسقطُ وهْمَ الاكتفاء، وتقتلُ الغرور الرُّوحي، لقد جاءت لتزرعَ في القلوبِ خوفَ الاغترار، ولتبقيها في حضرةِ الذِّكر حيَّة متوقدة، لا تعرفُ جمودًا ولا غفلة، وهي ضربٌ من التَّربيةِ الإيمانية الإلهية المبكرةِ لهم، مفادها: إيَّاكم والرُّكون المفضي إلى الفتورِ والملال وامتلاء النَّفس بزهوِ الاصطفاء، فإنَّ العبدَ مهما بلغَ من الإيمان، والسَّبق، يبقى عُرْضَةً للزَّمن، والزَّمان أعقد من أن يتركَ الإيمان على حاله.
إنَّ القلبَ الإنساني، بحاجةٍ إلى نفحاتٍ توقظه، وإنارة تجدِّدُ روحه، حتى لا يتحول الخشوع إلى عادة، ولا يصبح الإيمان مجرد ذاكرة للأيام الأولى، لم يكن الجيل الأول بحاجة إلى من يُذَكِّرهم بالله، لكنَّ الله ذكَّرهم، لأنَّ أعظم خطر على القلبِ المؤمن هو أن يطمئنَ إلى مستواه، وأن يرضى بما حقَّقه، فيترك له الزَّمان أثره الخفيِّ، دونَ أن يدرك أنه بدأ يفقد حساسيته الأولى لنورِ الوحي، ولما كان الصَّحبُ الكرام من أبعدِ النَّاس عن ذلك، جاءَ التَّذكير ليحوطَ نفوسهم من أيَّ وهنٍ وآفة تميتُ القلب وتبعده عن كرامةِ الهمِّ الجليل الذي يسيرُونَ في دربهِ!
وقد جاءَ النِّداء العلويُّ محذِّرًا من تجارِبَ مماثلة، فأرادَ وضْعَ المتلقي الجديد في صُلبِ الحقيقة، حذارِ أن تكونوا كمن كانوا مثلكم حولَ نبيهم، ثمَّ طالَ عليهم الأمد، فقست قلوبهم، فنُزِعَ عنهم الاستحقاق، وتخلوا عن دربِ الرِّسالة، وتركوا نبيهم وحدهُ بلا معينٍ ولا ناصر، فطواهم الزَّمن، وباتوا عبرة لمن أتى بعدهم، إذ لم يكونوا أهلًا للاستخلاف، ولم يشرفوا بحفظِ رسالةِ السَّماء. ولما كانَ القرآن يهدفُ إلى صناعةِ أقوامٍ على دربِ الكمالِ الرِّسالي، حرصَ على بقاءِ توهج الإيمان، حيًّا متقدًا، حتى لا ينزلقوا إلى مصائر من سبقهم ممن كانوا في مكانهم بجوارِ نبيٍّ ورسالة، فما صانوها، ولا رعوها حقَّ رعايتها.
وإذا كانَ هذا العتابُ قد نَزَلَ في أعظمِ جيلٍ عرفَه الإسلام، فكيفَ بنا نحن؟
إذا كانَ الصَّحابة، بكلِّ نقائهم الإيماني، قد احتاجوا إلى آيةٍ توقظهم، فما حاجتنا نحن، وقد توالت علينا الغفلات، وطالَ علينا الأمد، واعتدنا سماعَ القرآن حتى تبلَّدت أحاسيسنا عنه؟
وهذا يضع أمامنا سؤالًا جوهريًّا: كيف نعيد استقبال القرآن كما استقبله الجيلُ الأول؟ إنَّ الجواب يكمن في إعادة بعثِ اليقظة الرُّوحية في حياتنا، واستعادة وهج التَّفاعل مع الوحي كما أراده الله.
إنَّ نزولَ الآية في توقيتها المدهش لم يكن محضُ خطابٍ للجيلِ الأول فحسب، بل هي نداءٌ يتردَّدُ في كلِّ زمان، يعبر القرون ليهزَّ أرواحَ الغافلين، ويوقظهم من سباتِ الرُّكون، ولعلَّ القلوب التي ترتجفُ حينَ تسمعُ هذه الآية، تدركُ أنَّ الإسلامَ لم يكن يومًا "زمنًا ذهبيٍّا مضى"، بل هو نداءٌ خالدٌ، يسري في كلِّ عصر، باحثًا عن أرواحٍ تتلقَّاه كما تلقَّاه الجيل الأول، فتجدِّد العهد، وتمضي في دربِ الخشوع، كأنها تسمعُ النَّداءَ لأولِ مرة.