وما بعد هذا قد تقدم تفسيره إلى قوله تعالى: [ ص: 201 ] وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات "الابتلاء": الاختبار والامتحان، وابتلاء الله يعود إلى إعلامه عباده لا إلى استعلامه؛ لأنه يعلم ما يكون، فلا يحتاج إلى الابتلاء ليعلم، والمعنى: أنه عامله معاملة المختبر، وأكثر المفسرين قالوا في تفسير "الكلمات": إنها عشر خصال عن السنة، خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فالتي في الرأس: الفرق، والمضمضمة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، والتي في الجسد: تقليم الأظافر، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء، ونتف الرفغين.
قال ، عطاء عن : أوحى الله تعالى إلى ابن عباس إبراهيم : يا خليلي تطهر، فمضمض، فأوحى الله إليه: أن تطهر، فاستنشق، فأوحى الله إليه: أن تطهر، فاستاك، فأوحى الله إليه: أن تطهر، فأخذ من شاربه، فأوحى الله إليه: أن [ ص: 202 ] تطهر، ففرق، فأوحى الله إليه: أن تطهر، فاستنجى، فأوحى الله إليه: أن تطهر، فحلق عانته، فأوحى إليه: أن تطهر، فنتف إبطيه، فأوحى الله إليه: أن تطهر، فقلم أظفاره، فأوحى الله إليه: أن تطهر، فأقبل بوجهه ماذا يصنع؟ فاختتن بعد عشرين ومائة سنة.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر الخشاب ، أخبرنا أبو عمرو محمد بن أحمد الحيري ، أخبرنا ، حدثنا الحسن بن سفيان ، حدثنا قتيبة بن سعيد المغيرة بن عبد الرحمن ، عن ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، قال: أبي هريرة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إبراهيم بالقدوم، وهو ابن ثمانين سنة" رواه " اختتن البخاري ومسلم ، عن قتيبة أخبرنا أبو بكر بن الحسين الحيري ، حدثنا ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، قال: قرئ على بحر بن نصر ابن وهب : أخبرك ابن سمعان عن ، عن محمد بن المنكدر ، عن سعيد بن المسيب أنه قال: أبي هريرة " اختتن إبراهيم بقدوم وهو ابن عشرين ومائة سنة، ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة" وكان [ ص: 203 ] يقول: سعيد بن المسيب كان إبراهيم أول الناس أضاف الضيف، وأول الناس اختتن، وأول الناس قص شاربه، وقلم أظفاره واستحد، وأول الناس رأى الشيب، فلما رآه قال: يا رب ما هذا؟ فقيل له: هذا الوقار، قال: يا رب فزدني وقارا.
وقوله: فأتمهن أي: أداهن تامات غير ناقصات، فقال الله تعالى له: إني جاعلك للناس إماما قال : أوحى الله إليه: إني جاعلك للناس إماما يقتدي بك الصالحون من بعدك. ابن عباس
و"الإمام": كل من ائتم به قوم، و"النبي": إمام وقته، و"الخليفة": إمام رعيته، والقرآن: إمام المسلمين، على معنى أنهم ينتهون إليه فيما أمر وزجر.
فقال إبراهيم ، ومن ذريتي أي: ومن أولادي أيضا فاجعل أئمة يقتدى بهم، والذرية: تقع على الآباء والأبناء والرجال والنساء، قال الله تعالى: وآية لهم أنا حملنا ذريتهم أراد آباءهم الذين حملوا مع نوح في السفينة، وقال تعالى: إن الله اصطفى آدم ونوحا إلى قوله: ذرية بعضها من بعض فدخل الآباء فيها والأبناء، وتكون الذرية واحدا، وهو في قوله: هب لي من لدنك ذرية طيبة يعني: ولدا صالحا.
فقال الله تعالى لإبراهيم : لا ينال عهدي الظالمين أعلمه أن في ذريته الظالم، قال : عهدي: نبوتي، أي: لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة في الدين من كان ظالما من ولدك. السدي
وقال : لا يكون للناس إمام مشرك. الفراء
قوله تعالى: وإذ جعلنا البيت يعني الكعبة التي هي القبلة اليوم، مثابة للناس "المثاب" و"المثابة" مصدران: ثاب يثوب إذا رجع، والمراد بالمثابة هاهنا: الموضع الذي يثاب إليه، قال : [ ص: 204 ] معادا ومرجعا لا يقضون منه وطرا، كلما أتوه وانصرفوا اشتاقوا إلى الرجعة إليه. ابن عباس
وقوله: وأمنا أراد: مأمنا.
قال : يريد: من دخله كان آمنا، فمن أحدث حدثا خارج الحرم ثم لجأ إليه أمن من أن يهاج فيه، ولكن لا يؤوى ولا يخالط ولا يبايع، فإذا خرج منه أقيم عليه الحد، ومن ابن عباس أقيم عليه الحد، وهذا مذهب أحدث في الحرم : وهو أن الجاني إذا لاذ بالحرم أمن، ومذهب أبي حنيفة : أنه لا يأمن بالالتجاء إليه، ويستوفى منه ما وجب عليه في الحرم على ما روي في الخبر: الشافعي ، وعلى هذا فمعنى قوله: "وأمنا" الأولى: أن يأمن فيه الجاني، فإن أخيف بإقامة الحد عليه جاز، وقد قال كثير من المفسرين: من شاء آمن ومن شاء لم يؤمن، كما أنه لما جعله مثابة، من شاء ثاب، ومن شاء لم يثب. "إن الحرم لا يعيذ عاصيا"
وكان قبل الإسلام يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرض له، وهذا شيء كانوا توارثوه من دين إسماعيل ، فبقوا عليه إلى أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فاليوم من أصاب فيه جريرة أقيم عليه الحد بالإجماع.
وقوله تعالى: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قراءة أهل المدينة والشام -بفتح الخاء- على معنى الخبر، ويؤكده أن الذي قبله والذي بعده خبر، وهو قوله: وإذ جعلنا، وعهدنا، ومن قرأ: (واتخذوا)، بالكسر على الأمر، فحجته ما:
[ ص: 205 ] أخبرنا أحمد بن الحسن القاضي ، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي ، حدثنا عبد الرحمن بن منيب المروزي ، حدثنا ، حدثنا يزيد بن هارون حميد ، عن أنس قال: عمر : وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وقلت: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله تعالى آية الحجاب، وقال: وبلغني بعض ما أذين به رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أزواجه، قال: فدخلت عليهن، فجعلت أستقربهن واحدة واحدة، قلت: والله لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن، حتى أتيت على زينب، فقالت: يا عمر، أما كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله عز وجل: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن الآية، رواه قال ، في تفسيره هذه الآية، عن البخاري ، عن مسدد يحيى ، عن حميد ، قال قتادة في قوله: والسدي واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى : هو الصلاة عند مقام إبراهيم ، أمروا بالصلاة عنده، ولم يؤمروا بمسحه ولا تقبيله و"المقام" في اللغة: موضع القدمين، حيث يقوم عليه الإنسان، وهو الحجر الذي فيه أثر قدمي إبراهيم عليه السلام.
أخبرنا الحسن بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الفضل التاجر ، أخبرنا أحمد بن الحسن الحافظ ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ابن وهب ، حدثنا ، عن يونس بن يزيد ، حدثني ابن شهاب قال: [ ص: 206 ] أنس بن مالك . رأيت المقام فيه أصابعه، وأخمص قدميه، والعقب، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم