قوله تعالى: سيقول السفهاء الآية، نزلت في قال تحويل القبلة، عني بـ"السفهاء": يهود ابن عباس: المدينة.
و "السفهاء": جمع سفيه، وهو الخفيف إلى ما لا يجوز له أن يخف فيه، ما ولاهم أي: عدلهم وصرفهم، عن قبلتهم التي كانوا عليها يعنون بيت المقدس.
و "القبلة": الوجهة، وهي الفعلة من القابلة، والعرب تقول: ما له قبلة ولا دبرة، إذا لم يهتد لجهة أمره.
والضمير في قبلتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قل لله المشرق والمغرب أي: له أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم قال إلى دين مستقيم، ابن عباس: لأنه يؤدي إلى الجنة كما يؤدي الطريق المستقيم إلى المطلوب. ودين الله يسمى الصراط المستقيم ؛
قوله تعالى: وكذلك أي: وكما اخترنا إبراهيم وأولاده وأنعمنا عليهم بالحنيفية المستقيمة كذلك جعلناكم أمة وسطا أي: عدلا خيارا.
قال أهل المعاني: لما صار ما بين الغلو والتقصير خيرا منهما، صار الوسط والأوسط عبارة عن كل ما هو خير، [ ص: 225 ] قال الله تعالى: قال أوسطهم قيل في تفسيره: خيرهم وأعدلهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خير هذا الدين النمط الأوسط" .
محمد صلى الله عليه وسلم وسط لأنهم لم يغلوا غلو النصارى، ولا قصروا تقصير اليهود في حقوق أنبيائهم بالقتل والصلب. وأمة
قوله: لتكونوا شهداء على الناس قال - في رواية ابن عباس - يريد: على جميع الأمم، وذلك أن الله تعالى إذا جمع الأولين والآخرين أتي بالناس أمة بعد أمة، فيؤتى بأمة عطاء نوح فيسألهم عما أرسل إليهم فينكرون أن نوحا بلغهم ما أرسل به إليهم، فيدعى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون: نشهد أنه قد بلغ رسالتك فكذبوه وعصوك.
فتقول أمة نوح: هؤلاء كانوا بعدنا، فكيف يشهدون علينا؟! فيقولون: ربنا أرسلت إلينا رسولا فآمنا به وصدقناه، فكان فيما أنزلت عليه: كذبت قوم نوح المرسلين إلى قوله: قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون .
وقوله: ويكون الرسول عليكم شهيدا أي: على صدقكم، فهو من باب حذف المضاف، وذلك أن محمدا عليه السلام يسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم.
وقال قلت ابن جريج: لعطاء: ما معنى لتكونوا شهداء على الناس ؟ قال: أمة محمد عليه السلام شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين حين جاءه الهدى والإيمان.
ويكون الرسول عليكم شهيدا يشهد على أنهم آمنوا بالحق حين جاءهم وقبلوه وصدقوا به.
[ ص: 226 ] وقوله تعالى: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها أي: وما جعلنا تحويل القبلة التي كنت عليها، فهو من باب حذف المضاف، ويحتمل أن يكون المفعول الثاني للجعل محذوفا، على تقدير: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة، فحذف للعلم به.
وقوله: إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه أي: لنعلم العلم الذي يستحق العامل به الثواب والعقاب، وهو علم بالشيء بعد وجوده، والله تعالى يعلم الكائنات ولكن لا يعلمها موجودة إلا إذا وجدت، فكذلك العلم الذي يوجب الثواب والعقاب.
يفسر لنعلم ها هنا: لنرى، وهذا راجع إلى ما ذكرنا ؛ لأنه إنما يراه إذا علمه موجودا. وابن عباس
وكان الكعبة ابتلاء من الله تعالى لعباده، وذلك أن الله تعالى لما وجه نبيه إلى تحويل القبلة إلى الكعبة قال في ذلك قائلون من الناس، فقال بعضهم: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها.
وقال آخرون: قد اشتاق الرجل إلى مولد آبائه.
وقال في قوله: ابن عباس من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه : يعني: أهل اليقين من أهل الشك والريبة، ومن يوافق الرسول في التوجه إلى الكعبة ممن يرتد عن الدين فيرجع إلى ما كان عليه.
و "الانقلاب على العقب": عبارة عن الانصراف إلى حيث أقبل منه.
وقوله: وإن كانت لكبيرة : أي: وقد كانت التولية إلى الكعبة لثقيلة، إلا على الذين هدى الله أي: هداهم للحق، وهم الذين عصمهم الله حتى صدقوا الرسول في التحول إلى الكعبة .
وقوله: وما كان الله ليضيع إيمانكم .
أخبرنا أبو إبراهيم النصراباذي، أخبرنا إسماعيل بن نجيد، أخبرنا محمد بن الحسن بن الخليل النسوي، حدثنا حدثنا أبو كريب، عبيد الله بن موسى، حدثنا عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، عكرمة،
[ ص: 227 ] لما وجه رسول الله إلى الكعبة، قالوا: يا رسول الله: كيف بالذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: وما كان الله ليضيع إيمانكم وقال عن ابن عباس قال: الكلبي، عن كان رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين قد ماتوا على القبلة الأولى، منهم: ابن عباس: أسعد بن زرارة أبو أمامة، والبراء بن معرور أحد بني سلمة، وأناس آخرون، فقامت عشائرهم فقالوا: يا رسول الله، وقد صرفك الله إلى قبلة توفي إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى، إبراهيم فكيف بإخواننا؟ فأنزل الله: وما كان الله ليضيع إيمانكم .
يعني: ليبطل صلاتكم قبل بيت المقدس، يعني به الأموات أنه قد تقبل منهم.
والمفسرون يجعلون "الإيمان" ها هنا بمعنى الصلاة، ويمكن أن يحمل الإيمان ها هنا على ما هو عليه من معنى التصديق فيكون معنى الآية وما كان الله ليضيع إيمانكم يعني: تصديقكم بأمر تلك القبلة.
قوله: إن الله بالناس لرءوف رحيم "الرأفة" أشد من الرحمة وأبلغ، يقال: رأفت بالرجل أرأف به رأفة ورأفة، ورؤفت به أرؤف به.
وفي "الرءوف" قراءتان: إحداهما على وزن فعول، والثانية على وزن فعل، وفعول أكثر في كلامهم من [ ص: 228 ] فعل، ألا ترى أن باب صبور وشكور أكثر من باب حذر ويقظ؟ وإذا كان أكثر في كلامهم كان أولى؟ يؤكد هذا أن صفات الله قد جاءت على هذا الوزن نحو: غفور وشكور، ولم يأت شيء منها على وزن فعل.
ومن قرأ على وزن فعل فقد قيل إنه غالب لغة أهل الحجاز، ومنه قول الوليد بن عقبة:
وشر الطالبين فلا تكنه يقاتل عمه الرؤف الرحيما
وكثر ذلك حتى قاله غيرهم، قال جرير:ترى للمسلمين عليك حقا كفعل الوالد الرؤف الرحيم